الأخلاق مقياس الأمم، وثمرات حضارتها وتدينها، ولا تخفى المنزلة التي أولاها ديننا للأخلاق، حيث يظهر ذلك جلياً أيضاً من نصوص الشريعة، وكتب أهل العلم
إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة،
حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.
فإن كثيراً من الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم، فإذاً لابد من الخلق، ويكفينا أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]
قال ابن عباس و مجاهد : لعلى دينٍ عظيم وهو دين الإسلام. فالخلق أطلق على الدين كله، وهو ما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمر الله وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.
ولذلك جاء في الصحيحين : أن سعد بن هشام سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: [كان خلقه القرآن] فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً. أي: لقد كفتني هذه العبارة البليغة الموجزة، حتى هممت أن أقوم ولا أسألها شيئاً. وأصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] فليس هناك في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فهي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذه الآية أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع الناس، ويترك الاستقصاء والبحث والتفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل،
مثل قوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] قال الله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسفه، كما قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
وقال أنس رضي الله عنه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وقال: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟] متفق عليه.
والبر: حسن الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وفسر حسن الخلق بأنه البر؛ فدل على أن حسن الخلق طمأنينة النفس والقلب.
منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة:
ثقل الموازين يوم القيامة : وقد بلغ من منزلة حسن الخلق يوم القيامة أن يكون صاحبه من أثقل الناس وزناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهو أكثر ما يدخل الناس الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ذلك: (تقوى الله وحسن الخلق) و ميزان الكمال عند المؤمنين بكمال أخلاقهم: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) حديث صحيح.
من حَسُن خلقه بلغ درجة الصائم والقائم: وهذا الأمر هو الذي يدرك به الإنسان درجات العبادة الكبار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود ، وهو حديث صحيح، وأبشر يا صاحب حسن الخلق ببيت في أعلى الجنة، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الطبراني وإسناده صحيح، فالبيت العلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق.
مصاحبة النبي في الجنة : وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة و السلام يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته صلى الله عليه وسلم للمؤمن في معاملة الناس حين قال: (وخالق الناس بخلق حسن).
كيفية علاج ما اعوجّ من الأخلاق:
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتلافى المعوج من أخلاق الناس بكرمه، كما روى البخاري رحمه الله عن عبد الله بن أبي مليكة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها قباءً لـمخرمة بن نوفل ، فجاء ومعه المسور بن مخرمة، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فأخذ قباءً منها كان عليه، فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور ! خبأت هذا لك، يا أبا المسور!)
وكان أبو المسور في خلقة شدة، فكان عليه الصلاة والسلام يتلافى بحسن خلقه شدة أخلاق الناس، والأخلاق الحسنة تغطي على الأخلاق الرديئة .
ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة حسن الخلق، فإن حذيفة رضي الله عنه قال: (أُتي الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال: ماذا عملت في الدنيا قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أتجاوز على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي) فقال عقبة بن عامر الجهني و أبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في البشر أخلاقاً عالية، وكذلك أخلاقاً سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تعرف الأشياء ، فلولا الظلام ما عرفت فضيلة النور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة بالسوء لما حصلت عبودية الصبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنة عليهما.
إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفة، وكظم الغيظ، والتواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنك إذا قارنتها بغيرها تتبين جمال هذه الأخلاق، وضدها مثل: الكذب، والنفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، و الطمع، والحقد، والظلم، وغير ذلك من الأخلاق. وكما أن حسن الخلق منجاة ونجاح، فسوء الخلق ضياع ودمار، ولا بد إذاً من الالتزام والتمسك بهذه الأخلاق الحسنة.
اكتساب الأخلاق الحسنة:
ولنعلم أن هذه الأخلاق يمكن أن تكتسب، وليست أموراً غير قابله للاكتساب، لكن منها ما هو جبلي ومنها ما هو كسبي،
فالجبلي: أن الله جبل عليه من شاء من خلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله أن يكسبه الأخلاق الحسنة كما كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم اهدني إلى أحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وكذلك فإن المجاهدة من الأمور التي تعين الإنسان على اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذلك فإننا نتوقع أن التدرج سيكون نافعاً في عملية تغيير الأخلاق؛ لأن من الصعب على الإنسان أن يقفز قفزة واحدة من خلق سيء إلى خلق حسن. وكذلك من الأمور المهمة -وهذه النقطة تعيننا في مسألة ترك المثاليات-: أن بعض الناس يظن أنه يمكنه بسهولة أن يكتسب الخلق، والحقيقة أن القضية تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبنى على المحاسبة، ويحتاج الإنسان إلى إخوان يوجهونه ويبينون له، وإلاّ فكيف سيكتشف عيب نفسه إذا لم يكن حوله من يقول له: فيك خلق سيء ويحتاج إلى تقويم، فأمر حسن أن يكون حول الإنسان من يرشده وينصحه.
وكذلك من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة: أن يتطلع الإنسان إلى المعالي ويرفع نفسه إليها؛ لأن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها. كذلك الإبدال: فإن الإنسان إذا استقام فإن البخل يتحول إلى كرم، والدياثة تتحول إلى غيرة، والكبر يتحول إلى تواضع، والوقاحة تتحول إلى حياء، وهذا مجرب عند بعض الذين يهديهم الله سبحانه وتعالى، فتتغير أخلاقهم فعلاً، فالهداية منبع التغير في الأخلاق.
ثم إن قراءة سير الصالحين من الأنبياء والعلماء الذين هم القدوة الحسنة خير معين على اكتساب الأخلاق الحسنة، .